المساعد الشخصي الرقمي

مشاهدة النسخة كاملة : يحكى أن (12)


همام
20-06-2011, 08:21 AM
يحكى أن رجلا يدعى جبر زار قرية من القرى، فرأى في مقبرتها أمرا عجيبا. كان أهل القرية يضعون عند رأس القبر لوحة تحمل اسم صاحب القبر، وتاريخ ولادته، و تاريخ وفاته، ثم يكتب تحتها عبارة :- عاش كذا سنة و كذا شهر و عدد من الأيام، مثلا عاش ثلاث سنوات و ستة أشهر و ثمانية عشر يوما. لاحظ جبر أن العبارة التي تحسب العمر ليست صحيحة لكل الموتى فإذا حسب الفرق بين سنة الولادة و سنة الوفاة وجد معظمهم ماتوا بعد سن الخمسين و بعضهم يصل إلى السبعين و حتى الثمانين، لكن لما يقرأ عبارة عاش كذا و كذا لا يجد أحدهم تجاوز خمس سنوات مما يوحي بأنهم ماتوا و هم أطفال. تعجب جبر من هذا الأمر، فسأل أهل القرية عن السر، فأجابوه أننا عند ذكر سنة الولادة و الوفاة نكتب التواريخ الحقيقية، لكن عندما نكتب عبارة عاش كذا فنكتب فقط الأيام السعيدة في حياته، و هنا قال جبر: فإذا أنا مت فاكتبوا على قبري: هذا قبر جبر، من المهد إلى القبر، كناية عن أنه لم يمر به يوم سعيد أبدا. لا نريد أن نكون مثل جبر، بل نريد أن نحيا حياة سعيدة، و لكن ما هي مقومات الحياة السعيدة؟ و كيف نعيش حياة السعداء؟ إنني عند التأمل وجدت أن مقومات السعادة أربعة أشياء رئيسية بعيدا عن الإطالة النظرية، و قد يكون هناك غيرها، بل قد يكون هناك اشتراك في بعض هذه المقومات.


أولا: تقوى الله:- و هذه أهم المقومات، و لا يعرف قدرها إلا من جربها و لذلك يقول الشاعر:-


و لست أرى السعادة جمع مال= و لكن التقي هو السعيد


يقول الله تعالى :- (مَنْ عَمِلَ صَالِحًا مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنثَى وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَيَاة طيّبة)فكلمة طيبة، اسم جامع كبير و يدخل فيه السعادة. تعالوا معي لنرى أثر أحد هذه الأعمال الصالحة على انشراح الصدر. يقول النبي صلى الله عليه و سلم:-عن أبي هريرة رضي اللّه عنه، أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال‏:‏ ‏"‏يَعْقِدُ الشَّيْطانُ على قافِيةِ رأسِ أحَدِكُم إذا هُوَ نَامَ ثَلاثَ عُقَدٍ، يَضْرِبُ على كُلّ عُقْدَةٍ مَكانَها: عَلَيْكَ لَيْلٌ طَويلٌ فارْقُدْ، فإنِ اسْتَيْقَظَ وَذَكَرَ اللّه تعالى انْحَلَّت عُقْدَةٌ، فإن تَوْضأ انْحَلَّتْ عُقْدَةٌ، فإنْ صَلَّى انْحَلَّتْ عُقَدُهُ كُلُّها فأصْبَحَ نَشِيطاً طيب النَّفْسِ، وإلاَّ أَصْبحَ خَبِيثَ النَّفْسِ كَسْلانَ‏"‏ رواه البخاري و مسلم، فلاحظ هذه الكلمة الجامعة: طيب النفس، و التي تعني طمأنينة النفس و انشراح الصدر و من حافظ على صلاة الفجر عرف ما نقول. إن الأنس بالله هو الأنس الحقيقي، و لم يعط العبد خير من القرب من الله. كان السلف رحمهم الله يجدون ما نتحدث عنه و لذلك قال أحدهم: لو يعلم الملوك و أبناء الملوك لجالدونا عليه بالسيوف.


الثاني:- القناعة، لأن عدم القناعة يورث الطمع، و مع الطمع لا يستقر للقلب حال و لنتأمل قول الشاعر:-


إذا كنت ذا قلب قنوع= فأنت و مالك الدنيا سواء


بل لنتأمل قول النبي صلى الله عليه و سلم:- (من كانت الدنيا همه، شتت الله شمله، و جعل فقره بين عينيه، و لم يأته منها إلا ما كتب له، و من كانت الآخرة همه، جمع الله شمله، و جعل غناه في قلبه، و أتته الدنيا و هي راغمة) ولنتأمل: جمع الله شمله و جعل غناه في قلبه، لنعلم كيف تنعكس القناعة على سعادة القلب.


الثالث:- التسامح، لأن تصفية القلب من الغل و الحقد يبعث على راحة البال، بعكس ملء القلب بالأحقاد التي تضيعه في متاهات الأفكار لمحاولة الانتقام و هاهنا حديث عظيم مشهور- و إن تكلم في سنده بعض أهل العلم- و هو حديث عبد الله بن عمرو عندما أخبر النبي صلى عليه و سلم الصحابة أنه يدخل عليهم رجل من أهل الجنة فدخل رجل في الثلاثة أيام متوضأ و يحمل حذاءه بيده، فدار في فكر عبد الله رضي الله عنه أن هذا الرجل لم ينل شرف هذا الجزاء غلا بعمل عظيم فأتى الصحابي رضي الله عنه لحرصه على الخير و أخبره أنه كان بينه و بين أبيه- أي عبد الله- شيء- أي سوء تفاهم- و يريد أن يبيت عنده ثلاث ليال فرحب الصحابي به، لكن عبد الله لم ير كثير صلاة و لا صيام و لكن كلما تحرك في الليل ذكر الله، فلما انقضت الثلاثة أيام أخبره عبد الله بالخبر و سبب مجيئه و أنه لم يرى عبادة كثيرة فقال هو يا ابن أخي ما رأيت إلا أنني لا أبيت و في قلبي غل على أحد، فقال عبد الله: هذه التي أوصلتك و هي التي لا نطيق. هذا نموذج من النماذج لانشراح الصدر الذي يطلبه الكثير و لا يصلون إليه.


الرابع:- الإحسان إلى الناس و خاصة الضعفاء و الأيتام، فهو باب خير كثير في الدنيا و الآخرة و قد قال النبي صلى الله عليه و سلم :- ( خير الناس أنفعهم للناس) فالخيرية اسم جامع كما في سنة النبي صلى الله عليه و سلم حيث يستخدم اللفظ و يدخل فيه معان كثيرة. إن بعض أثرياء الغرب ينفقون أموالا كثيرة للضعفاء و المحتاجين و هم لا يرجون ما في الآخرة، و قد يكون بعضهم يبحث عن الشهرة لكن بعضهم يبحث عن السعادة و الوصول إلى مستوى إرضاء الذات أو ما يعرف ب (.Self Satisfaction . ). إننا نختلف عنهم: ( ترجون من الله ما لا يرجون) فينبغي الإخلاص في أعمالنا و أن لا نطلب بإعمالنا البحث عن السعادة لأن ذلك يجرح النية و قد ينقص الأجر، و لكن الله سبحانه عدل كريم و من الاستقراء وجد أن من يحسن إلى الناس يسعد في حياته قبل مماته و الله أعلم.


بقي أن نقول أنه ربما يعمل أحدنا هذه النصائح و يرى أنه ليس بسعيد في حياته. إن السعادة الحقيقية هي في الجنة و ليست في الدنيا التي قال فيها اللحسن التهامي:-


جبلت على كدر وأنت تريدها== صفوا من الأقذاء و الأكـدار


ومكلف الأيام ضد طباعــهــا== متطلب في الماء جذوة نار


و إليكم هذا الحديث العظيم لتروا من هو السعيد الحقيقي. عن أنس رضي اللَّه تعالى عنه عن النبي صلى اللَّه عليه وسلم قال :- "يؤتى بأنعم أهل الأرض، فيغمس في النار غمسة، فيقال: هل رأيت نعيمًا قط؟! فيقول: لا والله يا رب، ويؤتى بأشقى أهل الأرض، فيغمس في الجنة غمسة، فيقال: هل رأيت بؤسًا قط؟! فيقول: لا والله يا رب". رواه مسلم.


اسأل الله أن يملأ قلوبنا سعادة و انشراحا و لا نكون مثل جبر الذي يرى أنه من اللحد إلى القبر و لنرى قصيدة لإيلياء أبو ماضي –مع إنكارنا لبعض أشعاره- في التفاؤل:-


أيّها الشّاكي وما بك داءُ== كيف تغدو اذا غدوت عليلا؟


انّ شرّ الجناة في الأرضِ نفسٌ== تتوقّى، قبل الرّحيلِ ، الرّحيلا


وترى الشّوكَ في الورودِ ، وتعمى== أن ترى فوقها النّدى إكليلا


هو عبءٌ على الحياةِ ثقيلٌ== من يظنّ الحياة عبئا ثقيلا


والذي نفسه بغيرِ جمالٍ== لا يرى في الوجودِ شيئا جميلا


ليس أشقى مّمن يرى العيش مرا== ويظنّ اللّذات فيه فضولا


أحكم النّاس في الحياة أناسٌ== عللّوها فأحسنوا التّعليلا


فتمتّع بالصّبح ما دمت فيه== لا تخف أن يزولَ حتى يزولا


أنت للأرضِ أولا وأخيرا== كنت ملكا أو كنت عبدا ذليلا


لا خلود تحت السّماء لحيّ== فلماذا تراود المستحيلا ؟


وإذا ما وجدت في الأرض ظلاّ== فتفيّأ به إلى أن يحولا



أيّها الشّاكي وما بك داءُ== كن جميلا ترى الوجود جميلا





تقبلوا تحياتي و اعتذاري عن الإطالة و إلى اللقاء

الفاروق
20-06-2011, 10:31 AM
بارك الله فيك أخي همام على هذا الطرح المفيد (بالفعل)
و لست أرى السعادة جمع مال= و لكن التقي هو السعيد

بنت الديره
20-06-2011, 06:54 PM
القناعه كنز لا يفنى
طرح ممتع وراقي
الله يعطيك العافيه أخي الكريم
بنتظار ما يجود به قلمك المبدع

ابوريماس
20-06-2011, 06:59 PM
يسلمووووووووووووووو

على الموضوع الرائع

لا تحرمنا جديدك

همام
22-06-2011, 04:14 PM
الفاروق
بنت الديرة
أبو ريماس
أشكركم جميعا على مروركم و تعليقكم

ابو نايف
22-06-2011, 05:09 PM
اخي همام
بارك الله فيك ونفع بك وبعلمك
السعادة جميله جداً في حياة الانسان
ولكن لا ننسى ان السعاده الحقيقيه هي شعور نفسي بالرضا، تكمن في طاعة الله سبحانه وتعالى واجتناب نواهيه،
والإيمان به واتباع سنة نبيه صلى الله عليه وسلم، وليست بالمعاصي والشهوات، ودليل ذلك قوله تعالى :
{ من عمل صالحا من ذكر أو أنثى وهو مؤمن فلنحيينه حياة طيبة ولنجزينهم أجرهم بأحسن ما كانوا يعملون }.
إن السعادة مصدرها القلب، وذلك لقوله صلى الله عليه وسلم :{ ألا وإن في الجسد مضغة إذا صلحت صلح الجسد كله وإذا فسدت فسد الجسد كله ألا وهي القلب } وترتبط به، مصداقا لقوله جل وعلا :{ الذين آمنوا وتطمئن قلوبهم بذكر الله ألا بذكر الله تطمئن القلوب } والطمأنينة هي الشعور بالأمان والرضا عن الذات، وتصبح النفس بذلك مطمئنة راضية تشربت على الخير فصارت سجية لها وانطبعت على الاستقامة فصارت منهجا لها،
وهذا مقام السعادة الحقة التي بلغها الانبياء والاولياء والصديقون والشهداء والصالحون.
ومن الناس من يعتبر السعادة الحقيقة كما قال الشاعر:

إنما الدنيا طعام وشراب ومنام .......................... فإن فاتك هذا فعلى الدنيا السلام

المعتصم بالله
23-06-2011, 01:43 AM
اخي همام
شرعت على جمل الموضوع وجلست في فية معانية
فادخلني في ربج طراوته , واطعمت منه اجود الينى
حاكى العقول بالعلم والتقى , اخذت شربي من الحكم وايقنت ان قلمك
مبدع يبقى دائماً على العريش فلك الشكر والتقدير.

همام
24-06-2011, 06:10 PM
أبو نايف
أشكرك على مرورك و تعليقك
المعتصم بالله
دائما تحرجني بحسن اطرائك فأشكرك على ذلك و نسأل الله التوفيق للجميع و أن يرزقنا الإخلاص في أعمالنا