تقاضيني ابتسامته ،كأنها تقول لي ستدفعين ثمن فتنتها عبوساً طويلاً..
ويرشقني قلبه بالحجاره ،بعنف ، بألم ،كما لو أن قلبه الحاج يرشق قلبي الشيطان ..وحين يبكي الشيطان وينزعج مما يفعل الحاج ،يفترض أن يبكي قلبي وينزعج مثله ..!!
عيني فضيحه !! وعيناه لا تقع على الفضائح ..فلا يقرأ سري ونجواي بداخلها !
وعيناه المريحه ،صريحه !..أسرق منها كل ما يخبأه الكيان ، وأحتمي بالكلمات العذبه التي لم أسمعها سوى من عينه ! مع أن العيون لا تسمع بل تقرأ ..!
عالمي لا يشبه عالمه ،ولم يشبهه يوماً ولن يحدث ،كيف اتفقنا إذاً!
عالمي مليء بالكركرة والمرح ، والبراءه الغريبه !!
وعالمه مليء بالغموض والعزله ،والجديه البارزه!!
أعشق السكاكر والحلوى ويعشق مشروب الطاقه والقهوه المره ..فكرتُ أن اسأله ذات مره ، كيف تستطيع تحمل طعمها المر اللاذع هذا !
********
لم نتشابه حتى في الأحلام ،حيث كان من الممكن أن تتشابه الأحلام إن أبى الواقع الرضوخ لقانون المثليه ..لكنه كان دائماً يسرد علي حلمه الغريب ، قال لي مره :أود أن أبني كوكباً خاصاً لذوي الأخلاق الرفيعه ..ضحكتُ كثيراً ، وبدى عليه الإنزعاج من قهقهتي ..صرخ في وجهي ،أنتِ بلا إحساس ..!
وغادر متوهماً أنه لم يقل شيئاً سيؤذيني ..آذاني كثيراً ونسي كتابه على الطاوله ،كان يقرأ "لا تتسرع"..!!
وعلى سبيل الأفتراض ،يحق له أن يغضب إن ضحكت بسخرية وامتهان لحلمه ،فمن منا سيرضى بأن تهان الأماني !! لكنني ضحكت على حلمه البعيد تماماً عن حلمي ، كنت أحلم بأن يتحلى كل من في كوكبنا بالأخلاق الرفيعه ، تسرع ،لم أخبره بحلمي بعد ،ولم يكمل لا تتسرع بعد ..!
*********
جرت العاده أن يسمع كل صباح تلك الأنغام الصاخبه ويمزج صوته الحاد معها..الأنغام التي لا تعبر عن مزاجه الهادىء أبداً ولا عن شكليته البارده مطلقاً ..
وكنتُ أغلقها في وجهه بانفعالٍ مفتعل ،توقف مزقت طبلة أذني أيها الموسيقار المزعج ! ثم ما يلبث أن يرفع الصوت حتى يمزق طبلة أذني به فعلاً..وكان يلحظ في عيني غيظه ويعمد لستفزازي كلما استطاع ويجرني في منتصف الليل إلى العليه ليقترح عليَّ ترتيب أوراقه المبعثرة هنا وهناك ..عندما أنتهي ..يقول لي شكرا ببرود ..وكأنه يدفع مع الشكر النقود !!..يشعر بالبذخ وأنه قد أسرف على نفسه ..حين يقول شكرا لي..فكيف إن قال كلمة ألطف منها !!..
*******
هذا الرجل غريبُ الأطوار لم يشبهني حقاً.. كنتُ أبكي ضجراً من تصرفاته وقتما كان يضحك في سهرته مع الأصدقاء ..
اختلج مع دموعي رنين الجرس ، من الذي يطرق بابكِ يا ليلى في وقت ينعدم معه الزوار !
كفكفت دموعي الحمراء وفتحت الباب بوطأه ..أوه إنها جدتي ،يا لا المفاجأه ..!!
أذكر أنها لم تقتنع بأن تورم وجهي واحمرار عيناي بسبب الحساسيه !! فلم أتمالك نفسي حتى دفنتُ وجهي في جسد جدتي بانهيار ملحوظ.
اتصلت بذلك البليد ..كان لا يستطيع الإرتجال أمام سيدة العائله ، يومها وبخته بشده عن لا مبالاته الآ متناهيه.. ولم ترضى بأن أدافع عنه ..
لستُ خبيثه ،لأشتفي ويبرد دمي بعد صراخ جدتي عليه .. لكنني شعرتُ يومها أن جناحي لم يعد مكسور .
********
كنتُ أحبه رغم كل شيء ، استوعبت مؤخراً أن بعض الرجال لا يرغبون بالإفصاح عن مشاعرهم ،مخافة النقص ، فقررت أن أبحث عن تلك الكلمه في أعماقه ،حين يمتنع عن إسدال ستارها ..لكنه لاحظ استدراجي الدائم ، لا تحاولي ..لن تصلي لما ترمين إليه ..تمتمت والعبرة تخنقني ،أي صنفٍ من صنوف الرجال هذا !!..هنا توقفت.
*******
في موسم القطاف وددتُ لو أقطفه ثمره لي ..وكأنه ليس لي أصلا !
قلت له دعنا نرجع إلى مزرعة والدي في بورصه فإسطنبول مليئه بالسياح هذا الصيف والإزدحام شديد ..قال لي ارجعي بمفردك ، أنا لن أتخلى عن كرسيي المتحرك إنه مريح لظهري هنا ولن أجد مثله في مزرعة والدك !!
******
في موسم الصقيع تجمدت مزرعة أبي في بورصه وذبلت المزروعات ...قلتُ له دعنا نقيم في إسطنبول حتى يذوب الثلج فالبرد هنا أشد وأقسى ،ونحن منقطعون عن الأسواق ومتطلبات الحياة الآن ...قال لي كفى تذمراً..إسطنبول بارده أيضاً ولا يوجد أجمل من الإستقرار ..أدركتُ أنه كان يرفضني أنا ولا يرفض قراراً لم يرق له ، قررت أن أترك رساله مليئه بالأسى له وأغادر مع هبوب نسيم ذلك الفجر البارد ،وهذا ما حصل .
عشية ليلة الخميس ، وصلتُ منهكة إلى منزل صديقتي العزباء ماهينور ،كانت أطرافي متجمده وفوق ثيابي فتات الثلج يدغدغني برهةً وبرهه ،شعري كان مبلولاً ووجهي شاحبٌ مصفر وشفتاي مزرقتين وعينييّ جاحظتين ومعدتي منطويه وقلبي فارغ ..رأيت من زجاج النافذه نفسي فلم أعرفني ،أين تلك اللوحة الفنية الفاتنة في ملامح وجهي ! وأين اختفت ليلى الحسناء فجأه ،هل اختصر الإعياء طريقه إلى وجهي وذبلتُ اليوم كزهرة تقاوم قساوة تضاريس الشتاء في الجوار !!..
حدثتُ نفسي أمام النافذة كثيراً حتى فتحت لي "ماهي" الباب فهالها ما رأته ..! هه هي أيضاً لم تعرفني ،حدقت بتقاسيمي طويلاً حتى اكتشفت بجهد عقلي فذ أنني ليلى ..ليلى التي بلا حلم ولا مأوى .
مكثتُ عندها بضع أيام ،وشعرتُ أنني أتنفس الصعداء ،حيث أن ماهي تمتلك عقدةً من رجال الأرض ، وهي حتى لو لم تكون صديقتي ستقف في صفي وتعينني فقط لأنني لستُ ذكراً أمامها ..كانت تهمس لي بدفء كل صباح سأحميكِ أيتها الرقيقة من أشرار العالم كلهم لأنني صديقه ،والصديق لا يتخلى عن صديقه وقت الشدائد والخطوب ،كم أنتِ مريحه يا ماهي ، أنني حقاً مولعه بقوتك ، بصبرك ، كنتُ أسمع زميلاتي في الجامعه قبل أن أعرفها ينادينها بالصبيانيه ،فهي لا تشبه أنثى إلا بقلبها الحنون والدافىء ..
لقد علم أنني عندها ، وجاءني من أقصى المدينة يسعى ، دفع باب صديقتي بلا احترام ودخل علينا بلا دعوه !..
عندما وقعت عيني عليه أوقعت كعكة الشوكولا بكل رعب ، خبزتها بعنايه لأفاجىء بها ماهي ..لكن الآن أنا المتفاجئه بعضلاته يفردها أمامي بكل شراسه ليدخل في مرحلة اللاَ وعي بالضرب ..توسلته أن يرحمني ، إلا أنه أمسك بيداي النحيلتان وقيدني وأبرحني ضرباً ....
ليلى ،ليلى، انهضي ، ردي علي !!! ما خطبك !
استيقظت على صوت ماهي عندما عادت للمنزل ،لتجد رأسي يقطر دماً ، وفتات كعك الشوكولا على الأرض مع بعض الكدمات على وجهي ..وبرودة آتية من باب منزلٍ مفتوح .
بعد أن شفيت تماماً قررتُ أن أعود إلى أهلي في المملكه ،فلا طاقة لي بعذابٍ كهذا ..
********
أعترف أنني رفضتُ فكرة الأبتعاث مراراً..إلا أن فارسي الذي ضننته فارساً كان يوقعني في حبها كل حين،حتى رسم لي الدنى جنه ،وأنه سيهب حياته كلها لأجل أن يرى ثغري ضاحكاً كما ادعى ..
ذات مره سألنا المحاضر ، هل تؤمنون أن لكل إنسانٍ من اسمه نصيب؟ ..بعفوية مطلقه ،رفعتُ يدي وقلت أمام أسماع زملائي ..كلا يا سيدي ..
أنا أسمي ليلى وحسبتُ أن كل ليلى ستحظى بقيس ولكنني لم أتزوج رجلاً كقيس ..يهيم على وجهه حين أغيب !!
تعالت ضحكات كل من في القاعه علي ، ضحكوا وضحكوا حتى خشيت أن يضحك المحاضر معهم ..قالوا لي كم أنتِ عاطفيه وحالمه .
شعرتُ بندم عميق وحسره بالغه، يالكِ من فتاةٍ حمقاء ، الأحرى لو بقيتِ صامته ،فالجرح لا يؤلم إلا صاحبه ..
********
كان في البدايه جميل ..لن أنسى ذلك التاريخ ،ألتقيته في مكانٍ تخلق أو تصنع أو تأتي عنده الصدف ..بين أعمدة المكتبه.
كان يتخذ له محراباً يومياً في أبعد زوايها ليعتكف على القرآءه ..مثابر ومنهمك ،يأكل الحروف بنهم ،ألن يثير ذلك إعجاب فتاه بسيطه مثلي ..
ملامحه التي تذكرني بالصحراء رفظت أن تعيرني انتباهاً ، عندها أدركت أن ثمة فرق كبير بين ثقافة الأتراك هنا وبين ثقافة ابن البادية الأصيل .
فتوقفت عن لفت انتباهه ، لأنني شعرتُ بأنه يرفض أن يصير بطل قصةٍ عاطفيه كمهند .
توقفت ولم يلتفت .إذن كيف اجتمعنا ببيتٍ واحد بربكم! ..الصدفه ..وقد قالوا إن أجمل اللحظات والأشياء تأتي بالصدف .
محضُ صدمه وسقوط بعض الكتب من الرف واعتذار برسمية أنيقه وحوار عيون وقلبين .
يشبه فيلماً مكرراً أجل ،إلا أنني يومها لم أشعر أني أشاهد فيلماً أنا بطلته بقدر ما شعرتُ أنني لا أريد أن ينتهي هذا الفيلم أبداً ابداً..
******
إن خضتُ الحب فلن أقبل بالهزيمه ولن أرضى بالقليل ولن اختار قطعة شطرنج حجريه..س أختار قلباً يزركش أسمه قلبي نبضاً،ويذهب عن روحي النجوى ،ويزف لمحيايي السعادة والنشوه والبشرى ..كلُ البشرى ..
********
في غيابك ، لم يعد يبرق في ليلي سناً ، وأغرورقت عيناي بالدموع كمزن الغمام ، و تملكتني الهواجس ،واجتاحتني موجة الإكتئاب ..قررت صديقتي أن تصحبني لطبيب نفساني مجاور في البلده عله يخلصني من الكآبة الداخليه..فسألتها بوضوح هل سيعيد إليّ الطبيب غائبي ؟فأجابت :لا ..ولكن ..قاطعتها :إذن لا جدوى من الذهاب .
********
كلما افترضت حسن النيه ،ستصاب بالغثيان حينما تعلم عن بشاعة بعض النوايا ..
وكلما كنت طيباً ،ستكون الأقل حظناً والأكثر تعباً ..ففي عوالم الخيال الكل يحيون بسلام ،لكن هنا ،قمة هدفي إسعادهم وقمة هدفهم أن يرقصوا على أنغام حزني .
في دواخلنا عواصف ،أشدُ عتواً من كاترينا ..
مشكلتنا أننا لا نفصح غالباًً،وإن قررنا الإفصاح سنصاب بنوبة الندم من الإفصاح ..ونردد بأفقٍ ضيق ،ليتنا لم نخبرهم عن شيء.
********
بعد أن جعلتني أتجرع العلقم ،وأذوق الغصات ،وراوغت كثيراً في مشاعرك ، حتى ارتبطت مشاعرك نحوي بالحاجه وليس باسمي المنسي في قاموسك ..بعد كل هذا العمر النفيس الذي هدرته مني ،وكل هذه الثقافه التي عشعشت في عقلك ،ثقافة الأنا ،بعد أن بلغتُ من الكبر عتيا ولم أعد بحاجه إلى إثارتك بعد تشظيات حلمي وتحديات زمني وتقلبات مزاجك ، الآن ..أستطيع أن أحبك من غير أن تتحرك مشاعري ،حقاً أحبك لأنك ستكون السبب في أن أقول لإبنتي عندما تكبر ، إذا رأيتِ رجلاً يجلس في زاوية المكتبه ويتخذها محراباً له ليدعي أنه فارس زمانه ..تماماً كقيسي ..فلا تركني إليه إحساساً جميلاً ولا تقصديه ابداً ..أحبك لأنني الآن أقوى وأصلب ،لأنني تخلصت من ضعفٍ كان ينكح سعادتي ثم يُطلقها ..تاركاً سعادتي كصاحبتها شريده ..أحبك لأنك أنت وأنك نصيبي وقدري لأنك درس وزمن وحياه وحلم ..أحبك ..لأنك كنت يوما لي حلم ..وكنت أرجو أن يتحقق هذا الحلم ..حُلم ليلى .
( مقتبسات من رواية ..حُلم ليلى /سناء السلطان )..