الحمدلله والصلاة والسلاام على رسول الله ،وعلى آله ةصحبه ومن والآاه،وبعد:
فالحديثُ عنِ القلوب وعنْ صِفاتها أمرٌ مهم؛
حيث إنَّ مدار الأعمال على القلب، فبِه تصلح الأعمال أو تفسد، بل لا تُقبل الأعمال أيًّا كانتْ إلا إذا صلح القلب، وهو كذلك ملِك الجوارح فلا تعمل الجوارح شيئًا إلا بعدَ أمْره؛ فعن النعمان بن بشير قال: سمعتُ رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - يقول: - وأهْوى النعمان بإصبعيه إلى أُذنيه -: ((إنَّ الحلال بيِّن، وإنَّ الحرام بيِّن، وبينهما مشتبهات لا يعلمهنَّ كثيرٌ من الناس، فمَن اتَّقى الشبهات استبرأ لدِينه وعِرْضه، ومَن وقَع في الشبهات وقَع في الحرام، كالراعي يرْعَى حولَ الحِمى، يوشك أن يرتع فيه، ألاَ وإنَّ لكلِّ ملِك حِمًى، ألا وإنَّ حِمى الله محارمه، ألا وإنَّ في الجسد مضغة، إذا صلحَتْ صلح الجسدُ كلُّه، وإذا فسدَتْ، فسَد الجسد كله، ألاَ وهي القلْبُ))؛ البخاري برقم (52)، ومسلم برقم (3081) - واللفظ له.
قال الغزالي: "القلوب في الثَّبات على الخير والشر والتردُّد بينهما ثلاثة:
قلْب عُمِر بالتقوى، وزكَا بالرِّياضة، وطهُر مِن خبائث الأخلاق.
القلب الثاني: القلْب المخذول، المشحون بالهَوى، المدنَّس بالأخلاق المذمومة والخبائث، المفتوح فيه أبوابُ الشياطين، المسدود عنه أبوابُ الملائكة.
القلب الثالث: قلْب تبْدو فيه خواطرُ الهوى، فتدعوه إلى الشرِّ، فيلحقه خاطر الإيمان فيَدْعوه إلى الخير، فتنبعث النفْس بشهوتها إلى نُصرة خاطِر الشر، فتقَوى الشهوة وتحسن التمتُّع والتنعُّم، فينبعث العقلُ إلى خاطر الخير، ويدفَع في وجه الشهوة ويُقبِّح فِعلها، وينسبها إلى الجهْل، ويشبهها بالبهيمة والسَّبُع في تهجُّمها على الشرِّ وقِلَّة اكتراثها بالعواقِب، فتميل النفْس إلى نُصح العقل"؛ "إحياء علوم الدين" (3/ 45، 46).
وقال ابن القيم: والقلوب ثلاثة:
القلْب الأوَّل: قلب خالٍ من الإيمان وجميع الخير، فذلك قلبٌ مظلم قد استراح الشيطانُ مِن إلْقاء الوساوس إليه؛ لأنه قد اتَّخذ بيتًا ووطنًا وتحكَّم فيه بما يُريد، وتمكَّن منه غايةَ التمكُّن.
القلب الثاني: قلب قدِ استنار بنور الإيمان وأوقد فيه مصباحه، لكن عليه ظُلمة الشهوات وعواصِف الأهوية، فللشيطان هنالك إقبالٌ وإدبار، ومجالاتٌ ومطامع، فالحرْب دُول وسِجال.
وتختلف أحوالُ هذا الصِّنف بالقلَّة والكثرة، فمِنهم مَن أوقات غلبته لعدوِّه أكثر، ومِنهم مَن أوقات غلبَة عدوِّه له أكثر.
ومنهم مَن هو تارَةً وتارة.
القلب الثالث: قلب محشو بالإيمان قدِ استنار بنور الإيمان، وانقشعتْ عنه حجب الشهوات، وأقلعتْ عنه تلك الظلمات، فلنوره في صدرِه إشراق؛ ولذلك الإشراق إيقاد لو دنَا منه الوسواس احترَق به، فهو كالسَّماء التي حُرِستْ بالنجوم، فلو دنا منها الشيطانُ يتخطَّاها رُجِم فاحترق"؛ "الكلم الطيب" (ص: 24).
إذًا فأنواع القلوب ثلاثة:
النوع الأوَّل: القلْب السَّليم:
الذي سلِم صاحبه مِن الوقوع في الشبهات والشهوات، واستقام على أمْر الله، واقتدى بسُنة رسول الله - صلَّى الله عليه وسلَّم - واقتدَى أيضًا بالسَّلَف الصالح فنَتج عن ذلك سلامة قلْبه في الدُّنيا مِن أمراض القلْب التي تعتريه، وأمَّا يوم القيامة اليوم الذي لا يَنفع فيه مال ولا بنون، فإنَّه سيأتي ربَّه بهذا القلْب السليم، فيتمنَّى كل واحد في ذلك اليوم أن يكون صاحب ذلك القلْب، ولكن هيهات فلا تَنفع النَّدامة ولا الحسَرات، وصفات هذا القلب كالتالي:
هو الذي لا حياةَ به، فهو لا يعرِف ربَّه ومولاه، وخالقه ورازقه؛ لا يعبده ولا يأتمر بأمره ولا ينتهي عن نهيه، ولا يحبُّ ما يحبُّه ويرضاه، ولا يُبغض ما يبغضه ويأباه، بل هو واقفٌ مع شهواته ورغباته،
حتى ولو كان فيها مُسخطًا ربَّه، فعبادته لغير الله حبًّا وخوفًا ورجاءً وسخطًا، إنْ أحبَّ أحبَّ لهواه، وإنْ أبْغض أبغض لهواه، وإنْ أعطى أعْطى لهواه،
فهو آثرُ عندَه وأحبُّ إليه مِن رضا مولاه، لا يستجيب لناصح، بل يتَّبع كل شيطان مريد، الدُّنيا تُسخطه وتُرضيه والهوَى يصمُّه عمَّا سِوى الباطِل ويُعميه، فهذا هو القلْب الميِّت الذي ذكرت صِفاته في أكثر مِن آية في كتاب الله.
قال أحدُ الصالحين: يا عجبًا مِن المسلم يبْكون على موتِ جسدِه، ولا يبكون على مَن مات قلْبه وهو أشدُّ، فمُخالطة صاحِب هذا القلب سُقم، ومعاشرته سمٌّ، ومجالسته هلاك، وصفاته كالتالي:
القلب المريض هو قلبٌ له حياة، وبه عِلَّة فله مادَّتان، تمدُّه هذه مرةً وتلك أخرى، وهو لِمَا غلب عليه منهما، ففيه مِن محبَّة الله تعالى والإيمان به والإخلاص له والتوكُّل عليه ما هو مادَّة حياته،
وفيه مِن محبة الشهوات والحِرص على تحصيلها والحسد والكِبر والعُجب، وحبّ العُلو والفساد في الأرض بالرِّياسة والنِّفاق والرياء، والشح والبخل، ما هو مادَّة هلاكه وعطَبه،
ونعوذ باللهِ مِن هذا القلْب، وهذا الذي ذكَر الله في بداية كتابه أكثر مِن آية بأن خصَّ القلب السليم بأربع آيات، والقلب الميِّت بآيتين، ثم أكثر مِن ثلاث عشرة آية في هذا النَّوع؛
لأنَّ كثيرًا مِن المسلمين لا يخلو قلبُه أن يكونَ مِن هذا النوع ولو لحظة واحدة، نسأل الله أن يعصمَنا من ذلك، وأن يَشفي قلوبنا مِن أمراضها.