كم هو محزن أن نودعك يا شهر الخير و الصيام، نعم فلن يعرف قيمة هذا الشهر إلا من كان ينتظره حال وداعه لستة أشهر متتالية، و كم هو محزن أن نخرج من هذا الشهر دون أن نقدم فيه ما يرضي الله عز وجل، و دون أن نجتهد بالطاعات فيه، فوالله إننا مقصرون فعن أبى هريرة قال: قال رسول الله صلى الله عليه وسلم: "رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصل علي، ورغم أنف رجل دخل عليه شهر رمضان ثم انسلخ قبل أن يغفر له، ورغم أنف رجل أدرك عنده أبواه الكبر فلم يدخلاه الجنة" رواه الترمذى وقال حديث حسن غريب.
فلو أخذنا بمعنى الحديث لعلمنا أن هناك دلالة واضحة بضرورة الاجتهاد في هذا الشهر دون غيره من الأشهر، يكفي أن في شهر رمضان ليلة خير من ألف شهر يقول الله سبحانه و تعالى: ( إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِى لَيْلَةِ الْقَدْرِ * وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ * لَيْلَة الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْر * تَنَزَّلُ الْمَلاَئِكَةُ وَالرُّوحُ فِيَها بِإِذْنِ رَبّـِهم مِّن كُلِّ أَمْر * سَلاَمٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ ).
فمن صفات هذه الليلة المباركة:
1. منها أنه نزل فيها القرآن ، كما تقدّم ، قال ابن عباس وغيره : أنزل الله القرآن جملة واحدة من اللوح المحفوظ إلى بيت العزة من السماء الدنيا ، ثم نزل مفصلاً بحسب الوقائع في ثلاث وعشرين سنة على رسول الله صلى الله عليه وسلم . تفسير ابن كثير .
2. وصْفها بأنها خير من ألف شهر في قوله : ( لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِّنْ أَلْفِ شَهْرٍ ) سورة القدر الآية 2 .
3. ووصفها بأنها مباركة في قوله: ( إِنَّا أَنزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةٍ مُّبَارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنذِرِينَ ) سورة الدخان الآية 3 .
4. أنها تنزل فيها الملائكة ، والروح ، " أي ًيكُثر ًتنّزل الملائكة في هذه الليلة لكثرة بركتها ، والملائكة يتنزّلون مع تًنّزل البركة والرحمة ، كما يتنزلون عند تلاوة القرآن ، ويحيطون بحِلَق الذِّكْر ، ويضعون أجنحتهم لطالب العلم بصدق تعظيماً له " .
5. ووصفها بأنها سلام ، أي سالمة لا يستطيع الشيطان أن يعمل فيها سوءًا أو يعمل فيها أذى كما قاله مجاهد ، وتكثر فيها السلامة مِن العقاب والعذاب بما يقوم العبد مِن طاعة الله عز وجل .
6. ومنها قوله تعالى : ( فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ ) الدخان الآية 4 ، أي يفصل مِن اللوح المحفوظ إلى الكتبة أمرُ السنة وما يكون فيها مِن الآجال والأرزاق ، وما يكون فيها إلى آخرها ، كل أمر محكم لا يبدل ولا يغير ، وكل ذلك مما سبق علم الله تعالى به وكتابته له ، ولكن يُظهر للملائكة ما سيكون فيها ويأمرهم بفعل ما هو وظيفتهم " شرح صحيح مسلم للنووي " .
7. أن الله تعالى يغفر لمن قامها إيماناً واحتساباً ما تقدم من ذنبه ، كما جاء في حديث أبي هريرة -رضي الله عنه-عن النبي -صلى الله عليه وسلم- قال : ( مَن صام رمضان إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم مِن ذنبه ، ومَن قام ليلة القدر إيماناً واحتساباً غفر له ما تقدم مِن ذنبه ) متفق عليه . وقوله : ( إيماناً واحتساباً ) أي تصديقاً بوعد الله بالثواب عليه وطلباً للأجر لا لقصد آخر من رياءٍ أو نحوه .
8. وقد أنزل الله تعالى في شأنها سورة ُتتلى إلى يوم القيامة ، وذكر فيها شرف هذه الليلة وعظَّم قدرها ، وهي قوله تعالى : ( إِنَّا أَنْزَلْنَاهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَمَا أَدْرَاكَ مَا لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4) سَلَامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5) ) .
9. اختصاص الاعتكاف فيها بزيادة الفضل على غيرها مِن أيام السنة ، والاعتكاف لزوم المسجد لطاعة الله تعالى وقد كان النبي -صلى الله عليه وسلم- كما أخبرت عائشة -رضي الله عنها- يعتكف العشر الأواخر مِن رمضان حتى توفاه الله تعالى ، ثم اعتكف أزواجه مِن بعده - متفق عليه
بالأمس كنا نقول ( أهلاً رمضان ) و ها نحن اليوم نقول ( مهلاً رمضان ).
أوصيكم و أوصي نفسي أولاً باستغلال ما تبقى من ليالي الشهر الكريم، فها هي تخطو متسارعة لعلنا ندرك هذه الليلة المباركة.
اللهم اجعلنا ممن صام وقام رمضان إيماناً و احتساباً، و ممن غفر له في هذا الشهر الفضيل.