طريق الموت .. "
أحاط بيديه الباردتين خصرها المصقول محاولا تهدئة أعصابها ، كانت كأنما ملك الموت أمامها ، كما لو لم يتبقى لها سوى دقائق لتعيش .. نبضات قلبها في تسارع و رئتاها تعجزان عن تأدية أبسط وظيفة .. " لا تقلقي سيكون كل شيء بخير ، لست الأولى ولن تكوني الأخيرة .. " .. نطق ببرود . كلمات ما كان لصداها إلى وقع السكاكين على صدرها ، فكل كلمة كانت تذكرها بفعلتها .. انتفض واقفا و هو يبتسم حين رأى أن حديثه لا يساعد و لو قشة ، و حرك رأسه يمينا شمالا هزأ بها ..
لبس سرواله و أغلق زرار قميصه قائلا " إن لم تكوني قادرة على على هذا فلماذا أتيت أصلا ..!! " .. واقفا أمام المرآة يصلح هندامه واضعا عطره الرجالي الفاره .. رشتان كانتا كافيتين لتنشرا الرائحة داخل الغرفة ، انتقلت من الجو إلى الأثاث و من أنفها لرئتيها ، فأحست بحرقة في عنقها .. عجبا لها رائحة ، قبل قليل كانت تنعش الأجواء و الآن هي تخنق الآحياء ..
نظر إليها مازالت لم تتحرك واضعة يديها بين رجليها و عيناها السوداوتان مفتوحتان على آخرهما و كأنهما تحاولان جمع القليل من الضوء وسط تلك العتمة التي أحاطت بها ، و جسمها الممشوق القوام في ارتجاف مستمر .. نظر إليها و استمر في تمعنه ، فاختلط حاضره بماضيه و رجعت به الذاكرة للوراء ، ليوم كان فيه ممن يذمون هته الأفعال و كيف وصل به الزمان لمثلها حال .. للحظة و لأول مرة منذ مدة ليست بالهينة تزعزعت ثقته بنفسه و رجع خطوة للوراء و خطوة أخرى ، تغيرت ملامح وجهه من اللامبالاة إلى الفزع ، أحس برائحة عطره تخنقه و بأضلاعه تكبس على قلبه .. فتح زرار قميصه و تحسس صدره ، نبضاته تتسارع و العتمة تغشيه ، للحظة أحس بما تحسه و نزل الظلام على نوره .. لم يفهم من أين هذا الشعور جاء ، فلقد ظن أنه تخلص منه من زمن طويل ، كيف لقاهر الفتيات أن يزعزع هكذا .. حاول تشتيت أفكاره قبل أن تفتك به ، حاول تذكر السبب الذي دفعه لهذا الطريق ، توارت أمام عينيه صورة محبوبته التي وعدته بالحب و رسمت له بالأشواق مستقبلا يجمعهما قبل أن ترمي بكل هذا عرض الحائط في أول فرصة لعيش أحسن مما وعدها هو به ، كشريط سينمائي استرجع ذكرياته و استرجع معها ملامحه الباردة ، عاد فخطا للأمام و قال بنبرة ملؤها قسوة متمردا على هذا الإحساس الذي كاد يعصف به : " أنا قاهر الصبايا لا تنطلي علي حيلهن .. انهضي فلن تلعبي علي دور الفتاة الأمينة المتحفظة .. فكم من قبلك عرفت أكثر تحفظا و أمانة .. " .. قالها و هو يستشيظ غضبا ، كما لو يحاول تبرير ما حصل .. " انهضي .. انقلعي من أمامي و لا أحب رؤية وجهك البائس مرة أخرى .. " .. أمسكها من يدها و سحبها عبر الرواق و هي تعرج ، رمى بها كما يرمي الأسد فريسته بعد استنزافها و أغلق الباب بقوة اهتزت لها جدران الرواق .. هناك صارت ، جثة هامدة أصبحت ، مستلقية على الأرض لمدة مرت و كأنها سنين تحاول النهوض فيها ، و لكن رجليها تخونانها .. استندت على الحائط فانزلقت يدها ، فهذا الأخير أيضا يتبرأ منها ويأبى مساعدتها على الوقوف .. لملمت أغراضها كما يلملم الجنود قتلاهم بعد نزال خاسر و نزلت على الدرج نحو الباب الخارجي ..
داخل الغرفة صار يتخبط و يكسر الأثاث كمن به مس و يشتم هذا اليوم الملعون .. خر على الأرض بعدما فرغت قواه في صراع أفكاره .. ذكريات تؤرقه و مبادئ تؤنبه .. استجمع قواه و جرى نحو الباب ، فتحه فلم يجدها ، استدار خلفه متفاجئا بأصوات السيارات في الخارج .. وقف على شرفة شقته بالطابق الخامس ليرى الناس تتجمهر حول جثة ملقاة على الأرض و سيارة مصطدمة بعمود كهربائي .. توقفت كل أعضاءه عن العمل و خفتت الأصوات المتضاربة بداخله .. أخرج من جيبه خاتم محبوبته و الدموع تخط وجنتيه " .. أرأيت إلى ما قادني حبك يا خائنة .. أنظري الوحش الذي صنعت .. تفرجي على ضحية أخرى لغدرك .. فالخيانة تولد الموت .. و الموت لا يولد سوى الموت .. البارحة أنت قتلت الروح و اليوم يموت الجسد .. "
خطى بقدمه على سياج الشرفة و مسح دموعه و لم يكن يكمل كلمة " أنا آسف " حتى تفاجأ الناس بصوت ارتطامه بالرصيف ..
عند بوابة العمارة كانت واقفة ، تنظر ببرود لدمائه تنتشر على الطريق .. مشت نحوه بثبات و سحبت من يده الخاتم واضعة إياه في إصبعها و هي ترمقه باشمئزاز ، و انطلقت مكملة طريقها و طريقه ..