عندما أزور قريتي بين الحين والآخر وخصوصاً في مواسم الصيف وأتجول في طرقاتها وأعرّج على بعض معالمها أشعر بأن هناك من يناديني بل ويستولي على مشاعري فيجبرني على التوقف والتأمل في تلك الأماكن التي احتضنتني صغيراً ودرجت على أرضها صبياً ، إنه صدى الذكريات والحنين إلى أيام سافرت ولن تعود وسنوات ودعتنا إلى الأبد .
كلما اختلست نظرة الى جهة اليمين رأيت تلك الشجرة التي لطالما استظليت بأغصانها وقد أصبحت عالية صلبة الأعواد متفرغة الأغصان بعد أن كانت غضّة طرية تتمايل كأغصان الريحان ، أما عندما استرق التفاتة سريعة إلى جهة الشمال فإني لاأرى إلا ذلك البئر الذي لطالما أطربتني أصوات السواني وهي تعزف لحن الحياة على جنباته .
لقد تغير كل شيء ، لم أعد أجد هنا إلا الذكرى وبقايا أماكن مطموسة المعالم ، لقد شاخت الأشجار وغارت الآبار وتغيرت الملامح .
أتحايل على ذاكرتي كثيراً لعلها أن تتقبل ذلك الواقع المتغير لكنها تأبى إلا أن تسافر بي إلى حيث هي أصوات السواني ورقصات الندى على أكمام السنابل ، هناك حيث الصبح يتنفس عبير أزهار الحناء وخرير الماء يطوف بالحقول ليعانق غراس الريحان وأوراق الكادي .
قبل الشروق وقبل أن تنهض الشمس من مخدعها الوثير خلف الجبال وفيما عتمات الليل لاتزال تتهادى بين أشجار نخيل الوادي ينطلق مزارعو القرية في همة ونشاط إلى أبارهم القريبة ليبدأوا هناك عزف السواني على جبين الشقاء فيتدفق الماء صافياً رقراقاً وينساب عرق الجباه ليمتزج عبر الجداول الصغيرة مع مياه الأبار الدافئة والتي تنحدر باتجاه الحقول لتضمد جراحها الظامئة ولتروي مزارعها الذابلة .
لقد كان للسواني لغة هي أقرب إلى الحزن منها إلا الفرح ولم يكن يفهمها إلا مزارعو القرية ،فهم يرون أن أصوات السواني كانت تعبر عن صاحبها إلى حد قريب فإذا أتى الصوت بطيئاً حزيناً فهذا يدل على أن التعب قد نال من الفلاح ومن أبقاره تلك التي تسحب غروب الماء من البئر ولكن ظمأ مزارعه يجبره على الاستمرار رغم الإرهاق والألم . وفي المقابل فإن أصوات السواني ذات النغمة السريعة تدل على أن الفلاح يبذل جهداً مضاعفاً لكي يسابق الزمن ويسقي أكبر مساحة ممكنة من مزارعه أو أنه كان مستأجراً من قبل أحدهم ويريد أن ينتهي سريعاً لعله أن يستفيد من بقية يومه في السقيا بآجر آخر لدى أناس آخرين .
لقد كانت أصوات السواني تتردد في أرجاء الوادي وكأنها قطع موسيقية راقية وسيمفونيات اوركسترا رائعة تشحذ همم الفلاحين وتزرع في أعماقهم الأمل لمستقبل جميل وتبعث في حياتهم البشرى بأمل جديد .
لقد أنصّتُ لصدى الذكرى وهي تعيد عزف السواني وكأنني أعيش تلك اللحظات ولكن هيهات لقد أصبحت أطيافاً تعانق ذاكرتي على استحياء وتلثم شفاه أعماقي في خجل.
__________________
أنا وشلون أعيش أن مـآ لقيتك ..!!
تذكرت الغ ـيـآب وضـآق بـآلي ..