الفخر والتفاخر:
وضح د. عبدالله بن إبراهيم الطريقي - الأستاذ بكلية الشريعة بالرياض: أنه جاء في معجم مقاييس اللغة لابن فارس: «الفاء والخاء والراء أصل صحيح، وهو يدل على عظم وقدم، من ذلك الفخر، ويقولون في العبارة عن الفخر: هو عد القديم، قال أبوزيد: فخرت الرجل على صاحبه أفخره فخراً: أي فضلته عليه، والفخير بتشديد الخاء: الكثير الفخر، والفاخر: الشئ الجيد والتفخر: التعظيم».
ويزيد ابن الأثير الأمر توضيحًا فيقول: الفخر: ادعاء العظم والكبر والشرف».
وفي المصباح المنير: «فاخرني مفاخرة ففخرته: غلبته، وتفاخر القوم فيما بينهم: إذا افتخر كل منهم بمفاخره».
وقد جاء ذكر الفخر في القرآن العزيز في خمسة مواضع، كلها جاءت في مقام الذم، إلا أنها تكون مقرونة بصفة مقاربة من الصفات غير المحمودة، كالفرح، والاختيال، كقوله تعالى: (ليقولن ذهب السيئات عني إنه لفرح فخور) والفرح في القرآن إذا جاء مطلقاً فهو مذموم كما ذكر الراغب الأصفهاني وكقوله تعالى: ﴿ وَاللَّهُ لَا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتَالٍ فَخُورٍ ﴾ [الحديد: 23].
وهكذا يبدو لنا أن الفخر خصلة ذميمة لأنه مباهاة وتعاظم في غير محله.
وإذا قدر أن محل الافتخار موجود لدى المفتخر، فإنه لا ينبغي له أن يتظاهر أمام الناس بمظاهر العظمة والكبرياء ولذا جاء في الحديث الشريف أن النبي - صلى الله عليه وسلم - قال: (أنا سيد ولد آدم ولا فخر) قال ابن الأثير أي لا أقوله تبجحًا ولكن شكرًا لله وتحدثًا بنعمه.
والسنّة النبوية مليئة بالتحذير والتنفير من الفخر والمفاخرة ومن ذلك ما رواه مسلم أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (إن الله أوحى إلي أن تواضعوا حتى لا يفخر أحد على أحد ولا يبغي أحد على أحد)، وروى أبوداود أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ليس منا من دعا إلى عصبية وليس منا من قاتل عصبية وليس منا من مات على عصبية).
والعصبية أو التعصب هو المحاماة والمدافعة عن الباطل، أو استعمال الأساليب غير المشروعة في الدفاع، وسبب النهي عن الفخر والعصبية ظاهر، فهما خلقان ذميمان يخرجان الإنسان من دائرة العقل والاتزان إلى دوائر الغرائز المنفلتة، ولذا فإن الإنسان قد يتصرف بلا عقل ولا تعقل فتنعدم معايير الحق والعدل حينئذ، وهما خلقان يجران إلى الكذب والتدليس، فضلاً عن المبالغة والتهويل أو التهوين، وآثارهما بالغة الخطورة، فقد يترتب عليهما السباب والتلاعن، والتباغض والتهاجر، بل الحراب والقتال وفي عهد النبي - صلى الله عليه وسلم - وقعت مفاخرة بين المهاجرين والأنصار كادت تسبب بينهما حرباً، لولا أنه عليه الصلاة والسلام نزع فتيلها بالحال، فقد كسع رجل من المهاجرين رجلاً من الأنصار، فقال الأنصاري: يا للأنصار، وقال المهاجري: يا للمهاجرين، فسمع ذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - فقال: مابال دعوى أهل الجاهلية؟ ثم قال: ما شأنهم؟ فأخبر بذلك، فقال عليه الصلاة والسلام: دعوها فإنها خبيثة».
الفخر نوعان:
ويؤكد د. الطريقي أن الفخر على نوعين: نوع جائز وسائغ، وذلك حينما يتحدث الإنسان أو تتحدث القبيلة أو الأسرة أو المؤسسة أو الشركة أو الدولة عن فضائلها الحقيقية، أو ماقدمته من أعمال وأنشطة، وليس من باب التعالي والتفاخر، ولكن من باب التحدث بنعمة الله تعالى، ولا سيما في مقام الدفاع ورد الاتهامات والشكوك الكاذبة ويدل لذلك قوله تعالى عن يوسف - عليه السلام - قَالَ ﴿ قَالَ اجْعَلْنِي عَلَى خَزَائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ ﴾ [يوسف: 55]، قال القرطبي عند هذه الآية «دلت الآية على أنه يجوز للإنسان أن يصف نفسه بما فيه من علم وفضل».
ومن هذا الفخر السائغ قول عائشة التيمورية (ت 1320 هـ):
بيد العفاف أصون عز حجابي
وبعصمتي أسمو على أترابي
وبفكرة وقادة وقريحة
نقادة قد كملت آدابي
ما ضرني أدبي وحسن تعلمي
إلا بكوني زهرة الألباب
ما عاقني خجلي عن العليا ولا
سدل الخمار بلمتي ونقابي
عن طي مضمار الرهان إذا اشتكت
صعب السباق مطامح الركاب
وهناك نوع محرم، وذلك حينما يكون مبعث الفخر الكبر، وهو غمط الناس واحتقارهم، وكان كذبًا ومبالغة وادعاء، والمتأمل في واقعنا الاجتماعي يجد الفخر بنوعيه وإذا كان أحد النوعين جائزًا وسائغًا وفق وصفنا، فإن النوع الآخر لا يجوز، ولا يصح السكوت عنه ولا إقراره، ولا تشجيعه، بأي أسلوب أو وسيلة كان، قولية أو فعلية، لما يترتب على ذلك من الآثار السلبية الوخيمة، على الدين والدنيا، وعلى وحدة الوطن، وتماسك المجتمع.
القبيلة.. والعصبية:
وتقول د. منى بنت حمد العيدان - أستاذ الإدارة والتخطيط التربوي المساعد بكلية التربية للبنات بجامعة الملك فيصل بالأحساء: إننا أمة تؤثر فينا تقاليدنا وموروثاتنا الاجتماعية وأعرافنا تأثيرًا كبيرًا، حسنها وسيئها، فقد ورثنا إلى جانب المروءة والشجاعة والكرم، العصبية القبلية التي تكاد تعصف بكل موروثاتنا الحميدة الأخرى. حيث أضحت تصنيفاً اجتماعيًا قاسيًا يؤخذ به أكثر من العدالة الاجتماعية الإسلامية في الزواج والعمل والتعليم، بل وحتى في التعامل اليومي بين أفراد المجتمع، وبعد أن ودعنا زمان الاقتتال والحروب بين قبائل يجمع بينها بلد واحد، ودين واحد، ولغة واحدة، إذا بنا ننقل المعركة إلى ميدان آخر، ميدان الحياة الاجتماعية، فهذا فلاني وذاك علاني، والثالث لا هذا ولا ذاك، وكأن الله سبحانه وتعالى قد أعطانا الحق في تقسيم الناس تقسيماً لم يقره هو سبحانه، ولم يسنّه لنا النبي - صلى الله عليه وسلم -، وأصبحت لنا شريعة أخرى غير شريعة الله وبتنا نخشى الناس والمجتمع أكثر من خشيتنا الله.
والعصبية مأخوذة في اللغة من (العَصْبِ) وهو: الطَّي والشَّد. وعََصَبَ الشيء يَعْصِبُه عَصْبَاً: طواه ولواه، وقيل: شدَّه. والتَّعَصُّب: المحاماة والمدافعة. والعََصَبَة: الأقارب من جهة الأب، قال الأزهري: عصبة الرجل: أولياؤه الذكور من ورثته، سمُّوا عصبة لأنهم عُصبوا بنسبه، وكل شيء استدار بشيء فقد عُصب به. والعُصْبَة والعِصَابة: الجماعة. ومنه ﴿ وَنَحْنُ عُصْبَةٌ ﴾ [يوسف: 8] ، ومنه حديث (إنْ َتهْلِكْ هَذِه الْعِصَابَةُ). وعَصِِيْب: شديد ومنه قوله تعالى: ﴿ هَذَا يَوْمٌ عَصِيبٌ ﴾ [هود: 77] هذا تعريفها لغة، أما في الاصطلاح فجاء في لسان العرب: هي - أي العصبية -: (أن يدعو الرجل إلى نصرة عصبته والتألب معهم، على من يناوئهم ظالمين كانوا أومظلومين)، وعرفها ابن خلدون بأنها: (النعرة على ذوي القربى وأهل الأرحام أن ينالهم ضيم أو تصيبهم هلكة ومن هذا الباب الولاء والحلف إذ نعرة كل أحدٍ على أهل ولائه وحلفه).
ومع أن العلماء والكتّاب ذكروا للعصبية تعريفات متنوعة إلا أنها لاتخرج عن هذين المعنيين. سواء أكان ذلك الاجتماع والتناصر على حق أم كان على باطل. أما القبليّة فهي نسبة إلى القَبِيْلَة، والقبيلة من الناس: بنو أب واحد. ومعنى القبيلة من ولد إسماعيل معنى الجماعة يقال لكل جماعة من واحد «قبيلة».
ومن التعريفات السابقة ل (العصبية) و(القبلية) يمكن أن نعرّف (العصبية القبلية) بأنها: (تضامن قوم تجمعهم آصرة النسب ونصرة بعضهم بعضاً ظالمين أو مظلومين ضد من يناوئهم). فعن بِنْتِ وَاثِلَةَ بْنِ الأسْقَعِ أَنَّهَا سَمِعَتْ أَبَاهَا يَقُولُ قُلْتُ: (يَا رَسُولَ اللَّهِ مَا الْعَصَبِيَّةُ قَالَ أَنْ تُعِينَ قَوْمَكَ عَلَى الظُّلْم)، ومنها كما قلت عصبية النسب أو العصبية القبلية التي هي مدار حديثنا هنا.
من خصال الجاهلية:
وتبين د. العيدان بأنه ليس غريباً أن توجد أو تتفشى العصبية القبلية في كثيرٍ من المجتمعات الإسلامية وبخاصة العربية منها وفي جزيرة العرب تحديداً، حيث أصل العروبة وجرثومتها فقد أنبأ بذلك رسول الله - صلى الله عليه وسلم - منذ أربعة عشر قرناً فأخبر أن ثلاث خصال من خصال الجاهلية تظل في أمته ولايدعها أهل الإسلام منها التفاخر بالأحساب والطعن في الأنساب فعن أنس - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاث لم تزلن بأمتي: التفاخر بالأحساب، والنياحة، والأنواء).
وعن أبي هريرة - رضي الله عنه - أن رسول الله - صلى الله عليه وسلم - قال: (ثلاث من فعل الجاهلية لا يدعهن أهل الإسلام: استسقاء بالكواكب، وطعن في النسب، والنياحة على الميت). وفي رواية أحمد بن حنبل رحمه الله: (ثلاث من عمل الجاهلية لا يتركهن أهل الإسلام النياحة على الميت، والاستسقاء بالأنواء، وكذا، قلت لسعيد وما هو؟ قال دعوى الجاهلية يا آل فلان يا آل فلان يا آل فلان).
إذًا فالتعصب القبلي - كغيره من الخصال الثلاث - لا يزال باقيًا في أمة الإسلام كما أخبر بذلك نبي الإسلام عليه الصلاة والسلام، ولكن بقاءه لايعني أنه أصبح أمرًا مقبولًا أو واقعًا محتومًا يعذر المسلم إذا ما سايره أو انخرط فيه، فليس هذا هو المعنى المقصود من الأحاديث بل المقصود هو تحذير الأمة من اتّباع عادات الجاهلية والانسياق خلف دعاواها الباطلة. ومع هذا التحذير النبوي الشريف نرى كثيراً من الناس متأثرين بالعصبية القبلية حتى أصبحت حديث سامرهم وشغل شاعرهم.
ما معرفة الشخص لنسبه إلا نعمة خالصة من الله فهو سبحانه شاء لك أن تولد ابن فلان الفلاني ولوشاء سبحانه أن تولد ابن فلان من الناس لنَفَذَتْ مشيئة الله، إذًا فالنسب نعمة تستحق الشكر لاالفخر ولنا في رسول الله - صلى الله عليه وسلم - أسوة حسنة حيث قال: (أَنَا سَيِّدُ وَلَدِ آدَمَ وَلا فَخْرَ)، وقبل ذلك قول الله تعالى: ﴿ يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ ﴾ [الحجرات: 13] فالله سبحانه يقول (لتعارفوا) وليس لتفاخروا وتعاظموا. فليس عيبًا أن يعرف الإنسان نسبه حتى يتحقق التعارف بين الناس شعوبهم وقبائلهم، ولكن العيب أن يكون ذلك مدعاة للتعاظم والتعالي على غيرهم. فمابال أقوام ينحون هذا المنحى ويدعون بهذه الدعوى والله سبحانه قد وضع الميزان الذي لايختل ﴿ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ﴾؟!