بسم الله الرحمن الرحيم
"ما من يوم ينشق فجره إلا ويُنادى: يا ابن آدم أنا خلق جديد، وعلى عملك شهيد، فتزوّد منى فإني إذا مضيت لا أعود.. إلى يوم القيامة"..
"إنما أنت أيام مجموعة كلما مضى يوم مضى بعضك"..!
"أدركت أقواما كان أحدهم أشح على عمره منه على درهمه"..!
ها نحن نستقبل داخل طيات أعمارنا أياماً تشهد علينا.. أو تشهد لنا.. أياماً تطوي صفحة عامٍ؛ طوت الأرض فيه ما شاء الله لها أن تطوي، ممن كانوا بالأمس القريب يمرحون ويفرحون معنا، ثم انفلتت سهامهم من الحياة وحظوظها!
يوم جديد.. عام سعيد..!
أحبتنا في الله.. ختام عامنا يُرى بهلال منير.. يطوي يوماً أخيراً.. في شهر أقسم المولى الجليل بعشر منه هي أفضل أيام الدنيا!
فلا تغرنّكم زخارف "الكريسماس" وهدايا "البابا نويل" عن إشراقات هجرة سيد الورى، وخير من وطئ الثرى؛ محمد بن عبدالله صلى الله عليه وسلم؛ فإن كلمة الله وروحه المسيح عليه السلام، بريء من هؤلاء، وسينزل من السماء؛ ليصلي مع أتباع محمد صلى الله عليه وسلم!
فصلوات ربي وسلامه على خاتم النبيين، الذي أسس بالهجرة أمة؛ ثم تركها على المحجة، وسنّ لها هجرة لا تنقطع إلى يوم المعاد: "المهاجر من هجر ما نهى الله عنه"!
فليهنئ نفسه منْ طوى عامه على هجرة مباركة كثرت فيها صحائفه البيضاء!
وليعاهد نفسه على صفحة جديدة منْ قصّر وأساء!
وسلام على المرسلين، البرآء من كل من بدّل وحرّف، وذلّ لهواه وانحرف
{وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنقَلَبٍ يَنقَلِبُونَ}!
عام كامل بين العلم والعمل!!
سنةٌ كاملةٌ من عُمُرِ الإنسان قد طويت، وصحيفةُ عامٍ كامل قد ملئت، ووضعت في رِقٍ، ثم خُتِم وطُبِع، فلن يُكسر إلاّ يومَ القيامة.
كلُّ المخلوقات تنتهي أعمارها، وتُطوى آجالها، وتُمزَّق صحائفها، إلا الإنسان فإنه يبقى متبوعًا بعد رحيله، موقوفًا للجزاء والحساب.
كم آيةً من القرآن حفِظتَها، وعرفتَ تفسيرها، واستمعت إلى كلام أهل العلم فيها، وكم حديثًا عن نبينا صلى الله عليه وسلم قرأته، وشُرِحَ لك معناه، وما فيه من الفقه، وكم قرأت من أحكام الحلال والحرام، وكم قرأت من علم العرب وآدابهم، مما فيه عون على فهم كلام الله وكلام رسوله صلى الله عليه وسلم ، كم بحثًا بحثته، وكم ورقةً كتبتها، كم ساعةً جلستها في الدرس والبحث، بل كم من الأيام قضيتها في الذهاب والإياب، والجلوس والاستماع، والقراءة والحفظ؟!
فبالله الذي لا إله غيره، ماذا أردت بكل ذلك، ومن أردت؟! هل أردت الله والدار الآخرة؟
هل أردت رفع الجهل عن نفسك وأهلِك؟
هل كان آخرُ عهدك بالآية آخرَ قطرةٍ من الحبر وضعتها على ورقة الاختبار؟
وهل كان آخرُ عهدك بالحديث والفقه والنحو والأدب حين حَصَلت على شهادة تأكل بها؟
إن كنت قد نسيت علمَك والوقت الذي أنفقته فيه، فهو عند الله لم يُنس، وضع في صحائف الأعمال، وقد كتب عليه ما قصده صاحبه، ومن أريد به.
قال صلى الله عليه وسلم :
((القرآن حجة لك أو عليك))، وقال تعالى
{وَنُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ مَا هُوَ شِفَاءٌ وَرَحْمَةٌ لِّلْمُؤْمِنِينَ وَلاَ يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إَلاَّ خَسَاراً (82)} [سورة الإسراء 17/82].
قال بعض السلف:
ما جالس أحدٌ القرآن فقام عنه سالمًا؛ بل إما أن يربح، أو أن يخسر، ثم تلا هذه الآية.
وقال أبو موسى الأشعري: إن هذا القرآن كائن لكم أجرًا، وكائن عليكم وزرًا، فاتبِعوا القرآن، ولا يتبِعُكُم القرآن؛ فإنه من اتَّبعَ القرآنَ هَبَطَ به على رياض الجنة، ومن اتبعه القرآن زَخَّ في قفاه فقذفه في النار.
وكم أتعب مدرس نفسه، واستعد لدرسه، وإفهام طلابه، فكم من الساعات قضينا في إعداد الدروس وإلقائها، وكتابة الأسئلة وتصحيحها؛ فأين هي الآن؟ وهل كانت لنا أو علينا؟
وكم جلس إداري خلف مكتبه، وأنجز من الأعمال، وكتب من الأوراق، فماذا أراد، ومن أراد؟
هل حظنا من علمنا وأعمالنا مال نأخذه؟ أو جاه ندركه؟ أو صيت نرتفع به؟
في صحيح مسلم عن أبي هريرة رضي الله عنه عن النبي صلى الله عليه وسلم قال:
((يقول الله تبارك وتعالى: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، من عمل عملاً أشرك فيه غيري تركته وشركه)).
**
العام بين العبرة والتهنئة
ذهب جمع من أهل العلم إلى جواز رد التهنئة بالعام الجديد؛ لأنه من العادات التي جرى عليها أمر الناس، وليس المقصود بها التعبد، لكن لا يبتدئ التهنئة به؛ لعدم ورود ذلك عن السلف، ولأن العبرة في الأزمان بالعمل فيها، لا ببلوغها.
لكن هل نهنئ بعضًا بحلول الأعوام، أو نذكِّر بعضًا بحلول الآجال، وقُربِ الرحيل؟!
إن في ذهاب الأعوام موعظةً يجب أن نعتبرها، وأن نسعى سعي المسافر الغريب في البلاد البعيدة يستحث نفسه للرجوع إلى بلده وموطنه، وليس شيء أعظم من العلم المصدَّقِ بالعمل ينقذكم مما أنتم فيه
{فَمَن كَانَ يَرْجُو لِقَاء رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صَالِحاً وَلا يُشْرِكْ بِعِبَادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)} [سورة الكهف 18/110].
***
اللهم إنا نستغفرك من جميع الذنوب والخطايا،
ونستغفرك مما تبنا إليك منه، ثم عدنا فيه،
ونستغفرك مما جعلناه لك على أنفسنا ثم لم نوف لك به،
ونستغفرك مما زعمنا أنا أردنا به وجهك فخالط قلوبنا منه ما قد علمت.
اللهم إنا نسألك من الخير كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم،
ونعوذ بك من الشر كله، عاجله وآجله، ما علمنا منه وما لم نعلم.
اللهم إنا نسألك من خير ما سألك منه محمد ‘ عبدك ونبيك،
ونعوذ بك من شر ما استعاذ منه عبد ونبيك صلى الله عليه وسلم .
اللهم إنا نسألك الجنة وما قرب إليها من قول أو عمل،
ونعوذ بك من النار وما قرب إليها من قول أو عمل،
ونسألك ما قضيت لنا من قضاء أن تجعل عاقبته رَُشَْدًا.
اللهم إنا نسألك فواتح الخير وخواتمه، وجوامعه، وأوله وآخره، وظاهره وباطنه.
اللهم أنت المستعان، وعليك البلاغ، ولا حول ولا قوة إلا بك.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وآله وسلم.