جثتْ على ركبتيها ليصبحان قامةً واحدة، راحتْ الأيدي تعبثُ في هندامِه، هي تعرفُ عملَها جيداً، ما تزالُ نصائحُها تترى على مَسمعيه:
- “حافظْ على ملابسِك نظيفةً، وعلى شعرِك المُسرَّح..”
تعانقت الأعينُ لتتمخَّضَ عن ابتسامةٍ حانيةٍ، مازالتِ الكلماتُ حُبلي:
- “تجنّب اللعبَ مع الأطفالِ المشاغبين، واسمعْ كلامَ مُدرِّستك، هه حبيبي؟ وشطيرةُ الجبنة..”
هزَّ رأسه في رتابةٍ وعينه التي لم يفارقها الكرى بعد شاردةٌ في ملكوتٍ آخر، انبثقتْ أمامَه لوحةٌ، فهو مقبلٌ على عالمٍ جديدٍ، عالمٌ مليءٌ بالمفاجآتِ، بالحكاياتِ، بالألعابِ الجميلةِ، الممتعةِ كما وعده أخوه الكبير، عالمٌ مليءٌ بالمدرسين القُساةِ، الذين يضربون الأولادَ الصغار، رسمَت أختُه المناحةَ التي تقامُ في هذا اليوم على لوحةٍ اختلطتْ ألوانُها لتخرجَ تشكيلاً، الدموعُ الغزيرة، المخاطُ المُتدلي من الأنوف، المدرساتُ القاسيات ذواتُ الشفاهِ الغليظةِ والحواجبِ الكثةِ، المعلمين الغاضبين دوماً بلا سبب..
حاول عقلُه فك شِفرات هذه اللوحة، لكنها ما تزالُ عصية، يمضي نصفَ نهارِه بعيداً عن البيت، بعيداً عن أولادِ الجيران، بعيداً عن كُرَته ومسدسِه الصغير، بعيداً عن التلفاز ومشاهدةِ الرسومِ المتحركة؛ ليبقى على أمل رؤيتهم من جديد..
ارتجف قلبُه.. تخيَّل نفسَه في منأى عن والدته وكلِّ من يحب..
هي ربطتْ حذاءَه الجديد، أخذتْ تنظرُ إليه بإعجابٍ، ارتسمتْ ابتسامةٌ ناعمةٌ على شفتيها، فأقبلت على وجنتيه، طبعتْ قُبْلة، بركانُ المشاعر المختلطةِ يتأججُ في صدرها، تُغالبُ دمعةً ما انفكت عن المقاتلةِ لتنزل..
أهي الفرحةُ؟ أم الفَرقُ من قطعةٍ لم تنفصل عنها بعد، تحاولُ حلَّ رموزِ اللوحة، صوتٌ رقيقٌ قطعَ الألوانَ المختلطة:
- ” ماما.. أنت تبكين؟.. أنت ستذهبينَ إلى المَدرسة ؟ ”
عادت الابتسامةُ بلونها تُعلنُ انتصارَ وهمٍ، استقلتْ على الشفاهِ الراجفة:
- ” أنا لا أبكي يا حبيبي، هذا غبارٌ قد علقُ بعيني جَعلها تَدمَع، ثم.. ثم من قال لك أن من يذهبَ إلى المَدرسة أولَّ يومٍ لابد أن يبكي؟.. الأولادُ المهذبون لا يبكون عندما يذهبون إلى المَدرسة، خاصة أجملَ يوم، الأول.”
- “لكن كيف سأعود للبيت؟ أنا أخافُ الذهاب وحدي”
أخذت الابتسامةُ وضعَ الاطمئنان:
- “سيأخذُك أخوك في طريقه، عليك بعد ذلك أن تعتادَ الذهابَ والإيابَ وحدك”
عيونُه الناعسة تقول شيئاً، فهي أيضاً تحاولُ فكَّ ألغازِ اللوحة:
- “وماذا أفعلُ إذا حاولَ أحد الأطفالِ سَرقة أقلامي؟”
- “اشكه للمدرسة وهي..”
- “وإذا حاول أحدهم ضربي؟..”
- “اشكه لأخيك في المدرسة، وهو سيعاقبُه على فِعلته ولن يفعلها ثانية، لابد أن تكون ولداً مؤدباً.. تفهمني؟”
اختلطتْ ألوانُ لوحتِه، ألوانٌ عصية كلما فك منها رمزاً وُلد آخر، انبثقَ الأسودُ فجأةً يغمرُ لوحتَه الزاهية:
- “إذا جاءَ اليهودُ وقصفوا المَدرسة لمن أشكهم يا أمي؟”
وقفت غصَّة في حلقها.. أرادت أن تلدَ شيئاً..
لكنه الدمعُ عَصِيّ