الغيبة لا تقتصر على اللسان
أخي .. إعلم أن الذكر باللسان إنما حُرِّم لأن فيه تفهيم الغير نقصان أخيك وتعريفه بما يكرهه، فالتعريض به كالتصريح، والفعل فيه كالقول، والإشارة والإيماء والغمز والهمز والكتابة والحركة، وكل ما يُفهم المقصَود فهو داخل في الغيبة وهوحرام .
عن عائشة رضي الله عنها قالت: دخلت علينا امرأة، فلمَّا أومأت بيدي أنها قصيرة، فقال عليه السلام : «اغتبتيها» (1).
ومن ذلك أيضاً: المحاكاة، يمشي متعارجاً، أو كما يمشي، فهو غيبة بل هو أشد من الغيبة لأنه أعظم في التصوير والتفهيم، ولما رأى رسول الله عائشة حاكت امرأة قال: «ما يسرني أني حاكيتُ إنساناً ولي كذا وكذا» (1) وكذلك الغيبة بالكتابة، فإن القلم أحد اللسانين.
وكل هذا أخي وإن كان صادقاً فيما يقول فهو مغتاب عَاص لربه وآكل لحم أخيه.
وإن كان كاذباً فقد جمع بين الغيبة والكذب. قال معاذ ابن جبل: ذُكر رجل عند رسول الله صلى الله عليه وسلم فقالوا: ما أعجزه! فقال صلى الله عليه وسلم: «اغتبتمُ أخاكُم» قالوا يا رسول الله: قلنا ما فيه. قال: «إن قُلتم ما فيه، اغتبتُموه، وإن قُلتُم ما ليس فيه فقد بهتُّمُوه» (2).
قال الحسن: ذكر الغير ثلاثة: الغيبة والبهتان والإفك، وكلٌ في كتاب الله عز وجل :
فالغيبة: أن تقول ما فيه.
والبهتان: أن تقول ما ليس فيه.
والإفك: أن تقول ما بلغك.
في الحديث عن النبي صلى الله عليه وسلم: «كلُّ المسلم عَلَى المسلم حرامٌ، دَمهُ ومَالُهُ وعرضُهُ» (1) والغيبة تتناول العرض، وقد جمع الله بينه وبين المال والدم.
أنواع الغيبة
تتنوع الغيبة في أشكال شتى، وقوالب مختلفة، وأخبث أنواع الغيبة غيبة من يجمع بين فاحشتين: الغيبة والرياء. وذلك مثل أن يُذكر عنده إنسان، فيقول: الحمد لله الذي لم يبتلينا بالدخول على السلطان والتبذل في طلب الحطام.
أو يقول: نعوذ بالله من قلة الحياء، نسأل الله أن يعصمنا منها... وإنما قصده أن يُفهم عَيب الغائب فيذكره بصيغة الدعاء.
وكذلك قد يقدح في مدح من يُريد غيبته فيقول: ما أحسن أحوال فلان، ما كان يقصر في العبادات، ولكن قد اعتراه فتور، وابتلي بما يبتلى به كلنا وهو قلة الصبر، فيذكر نفسه ومقصوده أن يذم غيره في ضمن ذلك ويمدح نفسه بالتشبه بالصالحين بأن يذم نفسه فيكون مغتاباً أو مرائياً ومزكياً نفسه فيجمع بين ثلاث فواحش، وهو بجهله يظن أنه من الصالحين المتعففين عن الغيبة.
ومن أشكال الغيبة: أن يذكر عَيب إنسان فلا ينتبه له بعض الحاضرين، فيقول: سبحان الله ما أعجب هذا!! حتى يُصغى إليه ويُعلم ما يقول.
أو يقول: ساءني ما جرى على صديقنا من الاستخفاف به، نسأل الله أن يروح عنه، فيكون كاذباً في دعوى الإغتمام وفي إظهار الدعاء له، بل لو قصد الدعاء لأخفاه في خلوته.
الأسباب الباعثة على الغيبة
من الأسباب الباعثة على الغيبة:
1 قلة الخوف من الله والوقوع في محارمه، فإن من استشعر عظمة الله تعالى وأنه مُطَّلع على أفعاله وأقواله تجنب ما يسخط الله ويغضبه.
2 تشفي الغيظ.. بأن يجري من إنسان في حق آخر سبب يوجب غيظه فكلما هاج غضبه تشفى بغيبة صاحبه.
3 موافقة الأقران، ومجاملة الرفقاء، ومساعدتهم، فإنهم إذا كانوا يتفكهون في الأعراض رأى هذا أنه إذا أنكر عليهم أو قطع كلامهم استثقلوه ونفروا منه، فيساعدهم ويجاريهم ويرى أن ذلك من حُسن المعاشرة.
4 إرادة رفع نفسه بتنقيص غيره، فيقول: فلان جاهل وفهمه ركيك، ونحو ذلك، غرضه أن يثبت في ضمن ذلك فضْل نفسه، ويريهم أنه أعلم منه.
5 الحسد.. فإن ثناء على شخص وحبهم له وإكرامهم يدفع المغتاب إلى القدح فيه ليقصد زوال ذلك.
6 اللعب والهزل.. فيذكر غيره بما يضحك الناس به على سبيل المحاكاة حتى أن بعض الناس يكون كسبه من هذا.
7 إرادة التصنع والمباهاة والمعرفة بالأحوال..
وهناك أسباب أخرى غير هذه..
بيان ما يُباح من الغيبة
تُباح الغيبة لغرض صحيح شرعي لا يمكن الوصول إليه إلا بها وهي ستة أسباب:
الأول: التظلم فيجوز للمظلوم أن يتظلم عند السلطان والقاضي وغيرهما ممن له ولاية، فيقول: ظلمني فلان بكذا.
الثاني: الاستعانة على تغيير المنكر ورد العاصي إلى الصواب، فيقول لمن يرجو قدرته على إزالة المنكر: فلان يعمل كذا فازجره، ويكون مقصوده التوصل إلى إزالة المنكر، فإن لم يقصد ذلك كان حراماً.
الثالث: الاستفتاء، فيقول للمفتي: ظلمني أبي أو أخي أو فلان بكذا، فهل له ذلك؟ وما طريقي في الخلاص منه، وتحصيل حقي، وهذا جائز ولكن الأحوط والأفضل أن يقول: ما تقول في رجل أو شخص أو زوج كان من أمره كذا وكذا.
الرابع: تحذير المسلمين من الشر ونصيحتهم وذلك من عدة وجوه منها: جرح المجروحين من الرواة والشهود وذلك جائز بإجماع المسلمين بل واجب لما فيه من إظهار المصلحة.
ومنها المشاورة في مصاهرة إنسان أو مشاركته أو معاملته، ويجب على المُشاورَ أن لا يخفي حاله، بل يذكر المساويء التي فيه بنية النصيحة.
الخامس: أن يكون مُجاهراً بفسقه أو بدعته كالمجاهر بشرب الخمر وتولي الأمور الباطلة، فيجوز ذكره بما يُجاهر به، ويحرم ذكره بغيره من العيوب إلا أن يكون لجواز سبب آخر.
السادس: التعريف فإذا كان الإنسان معروفاً بلقب كالأعمش والأعرج والأصم جاز تعريفهم بذلك، ويحرم إطلاقه على جهة التنقص، ولو أمكن تعريفه بغير ذلك لكان أولى.
كفارة الغيبة
الغيبة محرمة بإجماع العلماء وهي من الكبائر، وتنازع العلماء في كفارة المغتاب ولكنهم اتفقوا جميعاً على توبته كخطوة أولى.
والتوبة شروطها ثلاثة:
1 الإقلاع عن المعصية.
2 أن يندم على فعلها.
3 العزم على أن لايعود.
والتوبة من الغيبة تزيد شرطاً رابعاً لأن المغتاب جنى جنايتين.
أحدهما: على حق الله تعالى إذ فعل ما نهاه عنه فكفارته التوبة والندم.
الثانية: على محارم المخلوق.
فإن كانت الغيبة قد بلغت الرجل جاء إليه واستحله، وأظهر له الندم على فعله. وإن كانت الغيبة لم تبلغ الرجل جعل مكان استحلاله الاستغفار له، لئلا يخبره بما لا يعلمه، فيوغر صدره.
دُرر من أقوال السلف
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه :
من العجب أن الإنسان يهون عليه التحفظ والاحتراز من أكل الحرام، والظلم، والزنى، والسرقة، وشرب الخمر، ومن النظر المحرم، وغير ذلك، ويصعب عليه التحفظ من حركة لسانه، وكم نرى من رجل متورع عن الفواحش والظلم، ولسانه يفري في أعراض الأحياء والأموات ولا يبالي ما يقول..
قال وهب: نذرت أني كلما اغتبت إنساناً أن أصوم يوماً، فأجهدني، فكنت أغتاب وأصوم فنويت أني كلما اغتبت إنساناً أن أتصدق بدرهم، فمن حبُّ الدراهم تركت الغيبة.
قال سفيان بن الحصين: كنت جالساً عند إياس بن معاوية، فمرَّ رجل، فنلت منه، فقال: اسكت، ثم قال لي سفيان: هل غزوت مع الروم؟ قلت: لا، قال: غزوت الترك؟ قلت: لا، قال: سلم منك الروم، وسلم منك الترك، ولم يسلم منك أخوك المسلم، قال: فما عُدت إلى ذلك بعد.
قال يحيى بن معاذ: ليكن حظ المؤمن منك ثلاثاً: إن لم تنفعه فلا تضره، وإن لم تُفرحه فلا تغمه، وإن لم تمدحه فلا تذمه.
اغتاب رجل عند معروف الكرخي فقال له: اذكر القطن إذا وضع على عينيك.
دُعي إبراهيم بن أدهم إلى طعام، فلمَّا جلس، قالوا: إن فلاناً لم يجيء، فقال رجل منهم: إن فلاناً رجل ثقيل، فقال إبراهيم: إنما فعل هذا بي بطني، حيث شهدت طعاماً اغتبت فيه مسلماً، فخرج ولم يأكل.
قيل للربيع بن خثيم: ما نراك تعيب أحداً؟ فقال:لست عن نفسي راضياً، فأتفرغ لذم الناس.
قيل للحسن رضي الله عنه : إن فلاناً اغتابك، فأهدى إليه طبقاً من الرطب، فأتاه الرجل وقال له: اغتبتك فأهديت إليَّ؟ فقال الحسن: أهديتَ إليَّ حسناتك فأردتُ أن أُكافئك.
قال ابن المبارك: لو كنت مغتاباً أحداً لأغتبت والديّ لأنهما أحق بحسناتي.
كتب أشهب بن عبدالعزيز: إلى رجل كان يقع فيه: أما بعد.. فإنه لم يمنعني أن أكتب إليك أن تتزايد مما أنت فيه إلا كراهية أن أعينك على معصية الله، واعلم أني ارتع في حسناتك كما ترعى الشاة الخضر، والسلام.
أخي الحبيب:
يشاركك المغتاب في حسناته
ويعطيك أجري صومه وصلاته
ويحمل وزراً عنك ضن بحمله
عن النجب من أبنائه وبناته
قال أبو بكر بن عبد الرحمن: لا يُلهينك الناس عن ذات نفسك، فإن الأمر يخلص إليك دونهم، ولا تقطع نهارك بكيت وكيت، فإنه محفوظ عليك ما قلت.
قال الإمام مالك رحمه الله تعالى : أدركت بهذه البلدة يعني المدينة أقواماً ليس لهم عيوب فعابوا الناس فصارت لهم عيوب، وأدركت بهذه البلدة أقواماً كانت لهم عيوب، فسكتوا عن عيوب الناس فُنسيت عيوبهم.
قال شيخ الإسلام ابن تيمية قدس الله روحه :
إن بعض الناس لا تراه إلا منتقداً داءً، ينسى حسنات الطوائف والأجناس ويذكر مثالبهم، فهو مثل الذباب يترك موضع البرء والسلامة، ويقع على الجرح والأذى، وهذا من رداءة النفوس وفساد المزاج.