سؤال سوف يجيب عليه الكل بنعم .. فكل واحد يتصور أنه صادق و انه لا
يكذب .. و قد يعترف أحدهم بكذبة أو بكذبتين و يعتبر نفسه بلغ الغاية من الدقة و الصراحة مع النفس و انه أدلى بحقيقة لا تقبل مراجعة
و مع ذلك فدعونا نراجع معا هذا الإدعاء العريض و سوف نكتشف أن الصدق شيء نادر جدا .. و أن الصادق الحقيقي يكاد يكون غير موجود
و أكثرنا في الواقع مغشوش في نفسه حينما يتصور انه من أهل الصدق بل إننا نبدأ في الكذب من لحظة أن نتيقظ في الصباح و قبل أن نفتح فمنا بكلمة
أحيانا تكون مجرد تسريحة الشعر التي نختارها كذبة
الكهل الذي يسرح شعره خنافس ليبدو أصغر من سنه يكذب , و المرأة العجوز التي تصبغ شعرها لتبدو أصغر من سنها تكذب
و الباروكة على رأس الأصلع كذبة
و طقم الأسنان في فم الأهتم كذبة
و البدلة السبور الخفيفة التي تخفي تحتها فانلة صوف كذبة
و الكورسيه و المشدات حول البطن المترهلة كذبة
و النهد الكاوتشوك على الصدر المنهك من الرضاع كذبة
و المكياج الذي يحاول صاحبه إن يخفي به التجاعيد هو نوع آخر من الكذب الصامت
و البودرة و الأحمر و الكحل و الريميل والرموش الصناعية .. كلها أكاذيب
ينطق بها لسان الحال قبل أن يفتح الواحد منا فمه و يتكلم
بل إن مجرد ضفيرة المدارس على رأس بنت الثلاثين كذبة
و اللبانة في فم رجل كهل هي كذبة أكثر وقاحة
كل هذا و لم يبدأ اللسان ينطق و لم يفتح الفم بعد
فإذا فتح الواحد منا فمه و قال صباح الخير .. فإنه يقولها على سبيل العرف و العادة .. لم ينوي له الخير و لم ينوي له الشر .. فهو يكذب .. و هو يقرأ السلام على من يبيت له العدوان .. فهو يكذب
فإذا رفع سماعة التلفون مضى يطلب ما لا يريد من الأشياء لمجرد أنها مظاهر و مجاملات .. فهو يكذب .. و قد يرفض ما يريد خجلا و ادعاء .. فهو يكذب
و الولد و البنت يتكلمان طوال ساعتين في كل شيء إلا ما يتحرقان شوقا إلى أن يتصارحا به .. فهما يكذبان
و فتاة البار تبدؤك الحديث بالحب و هو لا يخطر لها على بال و لا تشغلها سوى حافظة نقودك . و كم زجاجة من الشمبانيا ستفتح لها
و الإعلان الذي يصف لك نكهة السيجارة و فوائدها الصحية يكذب عليك
و الإعلان الذي يقول لك إن قرص الإسبرين يشفي من الإنفلونزا كذب حتى بالقياس إلى علم الأدوية ذاته
و كل ما يدور في عالم البيع و الشراء يبدأ بالكذب
و صورة لاعب التنس في يده زجاجة ويسمي و صورة الأسد الذي يحتضن زجاجة الكينا .. و بطل الجري الذي يدخن سيجارة فرجينيا كلها صنوف من الأكاذيب الظريفة التي تراها ملصقة على الجدران و على أغلفة الصحف و في إعلانات السينما و التلفزيون و كأنما أصبح الكذب عرفا تجاريا لا لوم عليه
و في عالم السياسة و السياسيين و في أروقة الأمم المتحدة و على أفواه الدبلوماسيين نجد أن الكذب هو القاعدة
بل إن فن الدبلوماسية الرفيع هو كيف تستطيع أن تجعل الكذب يبدو كالصدق .. و كيف تقول ما لا تعني .. و كيف تخفي ما تريد .. و كيف تحب ما تكره .. و كيف تكره ما تحب
و أذكر بهذه المناسبة النكتة التي رويت عن تشرشل حينما رأى شاهدة مقبرة مكتوبا عليها .. ((هنا يرقد الرجل الصادق و السياسي العظيم))
فقال ضاحكا : هذه أول مرة أرى فيها رجلين يدفنان في تابوت واحد
فلم يكن من الممكن إطلاقا في نظر تشرشل أن يكون الرجل الصادق و السياسي العظيم رجلا واحدا .. إذ أن أول مؤهلات العظمة السياسية في نظر تشرشل هو الكذب
و شرط السياسة هو أن تخفي الحقيقة لحساب المصلحة .. و تتأخر العاطفة لتتقدم الحيلة .. و الفطنة .. و الذكاء .. و المراوغة
و الدبلوماسي الذي يجاهر بعاطفته هو دبلوماسي أبله .. بل إنه لا يكون دبلوماسيا على الإطلاق
و في عالم الدين و دنيا العبادات يطل الكذب الخفي من وراء الطقوس والمراسيم
شهر الصيام الذي هو امتناع عن الأكل يتحول إلى شهر أكل فتظهر المشهيات و الحلويات و المخللات و المتبلات .. من كنافة إلى مشمشية إلى قطايف إلى مكسرات و يرتفع استهلاك اللحم في شهر رمضان فتقول لنا الإحصاءات بالأرقام إنه يصل إلى الضعف و يصبح شهر رمضان هو شهر الصواني و الطواجن
و بين كل مائة مصل أكثر من تسعين يقفون بين يدي الله و هم شاردون مشغولون بصوالحهم الدنيوية يعبدون الله وهم في الحقيقة يعبدون مصالحهم و أغراضهم و يركعون الركعة لتقضى لهم هذه المصالح و الأغراض
و قد عاش بابوات القرون الوسطى في ترف الملوك و السلاطين و سبحوا في الذهب و الحرير و السلطة و النفوذ , و امتلكوا الإقطاعيات و القصور باسم الدين و باسم الإنجيل الذي يقول إن الغنى لن يدخل ملكوت الله إلا إذا دخل الجمل في ثقب الإبرة
بأنهم تصوروا أنهم امتلكوا الجنة فباعوها صكوكا لطالبي الغفران